فصل: مسألة يدعي حقا قبل الرجل فيقول احلف لي أن ما ادعي عليك ليس حقا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة امرأة ذات زوج لها أرض فغرس زوجها فيها:

من سماع عبد المالك بن الحسن من ابن وهب قال عبد المالك سئل عبد الله بن وهب عن امرأة ذات زوج لها أرض فغرس زوجها فيها، أو بنى بنيانا ثم هلك، فادعت ذلك البنيان، أو الغراس أنها هي بنته بمالها، أو غرسته، وادعى ورثة زوجها، أن العمارة لزوجها؛ من أولى بتلك العمارة- إذا لم يكن لواحد منهما بينة أو قامت البينة لورثة الزوج، فادعت المرأة أن زوجها عمر لها أرضا بنفقتها وبمالها، وأنكر ذلك ورثة الزوج وقالوا إنما أنفق ماله وعمر، وغرس لنفسه في أرض المرأة؟ فقال: إن كانت الأرض معروفا أصلها للمرأة لا تدافع عنها بوجه من الوجوه، فلم يقم لورثة الزوج بينة على نفقة ولا على ولاية بنيان ولا قيام عليه، فالقول قول المرأة، ولا شيء لورثة الزوج ولا للزوج لو كان حيا عليها أكثر من يمينها على ما يزعمون؛ وإن عرفت نفقة الزوج وبنيانه إياه وقيامه، فالمرأة مخيرة إن شاءت أعطته قيمته منقوضا وإن شاءت طرحت ذلك؛ وإن ادعت أنه إنما بناه بمالها أو أنها أعطته ما بناه من مالها لم تصدق إلا ببينة تقوم لها، وكان عليها غرم ذلك؛ قال: وقال أشهب: إذا كان الزوج حيا، فالقول في ذلك قوله؛ وإذا مات الزوج، فالقول في ذلك قول المرأة؛ إلا أن تقوم بينة أن الزوج كان يدعي في حياته تلك المرمة ولو مرة واحدة، فيكون القول في ذلك قول الورثة مع أيمانهم: ما يعلمون العمارة ولا شيئا منها للمرأة. ومن كتاب الجواب من سماع عيسى قال عيسى وسألت ابن القاسم عن الرجل يبني في أرض امرأته بنفسه ورقيقه أو يرم لها بعض ما ورث من بنيانها، ثم يطلب النقض، أو يموت فيطلب ذلك ورثته؛ قال ابن القاسم: ذلك له إن كان حيا، أو لورثته إن كان ميتا، إذا علم أنه الباني لذلك والقائم به، فإن ادعت المرأة أنه إنما بناه من مالها، وأنها أعطته ذلك وفوضت إليه، حلف إن كان حيا إن لم تكن لها بينة، وإن كان ميتا حلف ورثته إن كانوا ممن قد بلغ علم ذلك، أو ممن يبلغ منهم، ثم استحقوا نقضهم.
قال محمد بن رشد: فرق ابن وهب في هذه الرواية بين أن تقر المرأة لزوجها أنه بنى البنيان وتدعي أنه إنما بناه بمالها وبين أن تنكر أن يكون بناه، فيقيم هو البينة أنه بناه، فقال: إنه إذا أقرت له بأنه بناه وادعت أنه إنما بناه بمالها، يحلف أنه إنما بناه بماله مكذبا لدعواها، كان له عليها ما أنفق، وأنه إذا أنكرت أن يكون بناه، فأقام هو البينة على أنه بناه، لم يكن له إلا نقضه يقلعه، إلا أن يشاء أن تعطيه قيمته منقوضا؟ وساوى ابن القاسم في رواية عيسى هذه عنه بين الوجهين في أنه لا يكون له إلا قيمة نقضه منقوضا أو يقلعه؛ لأنه إذا قال ذلك في الذي أقرت له بالبنيان وادعت أنه بناه بمالها وحلف على ذلك، فأحرى أن يقوله في الذي أنكرت أن يكون بناه هو فأقامت البينة على ذلك، فلا اختلاف بينهما إذا أنكرت أن يكون بناه، فأقام البينة على ذلك في أنه ليس له إلا نقضه يقلعه، إلا أن يشاء أن تعطيه قيمته منقوضا، وإنما اختلفا إذا أقرت له أنه بناه وادعت أنه بناه بمالها؟ فقال ابن وهب له نفقته، وقال ابن القاسم: له نقضه يقلعه إلا أن يشاء أن تعطيه قيمته منقوضا؛ فحمل ابن وهب أمره في ذلك على الوكالة حتى يثبت عليه التعدي. وقوله في ذلك صحيح على قياس قول مالك في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات، وفي رسم البز من سماعه أيضا من كتاب المديان والتفليس- في أن تصرف الرجل في مال امرأته، محمول على الوكالة لا على التعدي؛ وحمل ابن القاسم أمره في ذلك على العداء، حتى يثبت أنها امرته بذلك ووكلته عليه؛ ولو أقرت أنها أذنت له في البنيان بمالها، فادعى هو أنه أنفق في ذلك ماله، لكانت له نفقته عندهما جميعا بعد يمينه أن النفقة في ذلك كانت من عنده؛ وقد مضى بيان هذا أيضا في رسم العرية من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق، وفي كتاب آخر رسم الكبش من سماع يحيى منه؛ ونزل على مذهب ابن القاسم وابن وهب ورثة الزوج منزلته في الدعوى وإن لم تعلم منه في ذلك دعوى، خلاف قول أشهب أنهم لا ينزلون منزلته في الدعوى إلا أن تعرف منه الدعوى، ووجه قوله أنه حمل بنيانه في دار امرأته وغرسه في أرضها على العطية منه لها، لما بينهما من حرمة الزوجية التي تقتضي المعروف بينهما بخلاف الأجنبيين، ألا ترى أنه قد قيل في هبة أحد الزوجين لصاحبه: أنه لا ثواب له في هبته إياه، إلا أن يشترط الثواب؛ وهو قول ربيعة في المدونة، وأحد قولي مالك فيها؛ وقول أشهب في هذه المسألة على قياس قولهم في الذي ينفق على ولده ولهم بيده مال ناض قد ورثوه فيموت، أنهم لا يحاسبون بما أنفق عليهم أبوهم من ماله، إلا أن يكتب ذلك عليهم ويوصي أن يحاسبوا ذلك، وقد مضى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة تحصيل القول في هذا، وبالله التوفيق.

.مسألة اصطلحا على أن رضي كل واحد منهما يمين صاحبه في كل ما يدعي:

من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب البيع والصرف قال أصبغ بن الفرج: وسئل ابن القاسم عن رجلين اصطلحا على أن رضي كل واحد منهما يمين صاحبه في كل ما يدعي كل واحد منهما وطرحا بيناتهما، فمن حلف منهما على ما يدعي عليه به صاحبه سقط عنه، وإن نكل غرم بلا رد يمين، أو برد يمين، فإن ادعى بعد ذلك شهادة أحد، فلا شهادة لهم، فاصطلحا على هذا؛ قال: ذلك جائز ثابت لا بأس به، قيل له: فإن كان هذا مكتوبا، فما ثبت لكل واحد منهما على صاحبه فهو يؤخر له به إلى أجل مسمى، فقال: لا خير فيه ولا يعجبني إذا كان ذلك شرطا يلزم فأما إن لم يكن شرطا يلزم فلا بأس أن يتطوع بذلك وقاله أصبغ بن الفرج كله، ولا أفسخ الذي أقر على أن يؤخره، فإني أمضيه إذا وقع وألزمه الإقرار وأجعل له التأخير والأجل، ولا أجد في حرامه من القوة والتهمة ما أبطله به، وإنما هو أحد وجهين: أن يكون حقا عليه هي نظرة، أو يكون باطلا ليست عليه فيتطوع به له لأجل، كالهبة والهدية، والله أعلم؛ قال أصبغ: وهو الذي وجدت الناس على، إمضائه لا أعلمه إلا وقد قاله هو أيضا ورجع إليه واختلف قوله فيه أيضا.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ: أن الصلح إن وقع على أن يؤخر كل واحد منهما صاحبه بما ثبت عليه بنكوله أو يحلف صاحبه، فهو مكروه ولا يفسخ؛ لأنه لا يخلو من أن يكون حقا فهي نظرة، أو باطلا فهي هبة، ليس ببين؛ لأنه يخشى أن يكون ما يثبت لكل واحد منهما على صاحبه حقا يكون قد أخر كل واحد منهما صاحبه بما ثبت له عليه على أن يؤخره هو بما ثبت له عليه، فيدخله أسلفني وأسلفك، ويخشى أن يكون أيضا لأحدهما على صاحبه أقل من العدد الذي يؤخره به، فيكون إنما نكل عن اليمين وردها على صاحبه ليؤخره بالخمسة التي له عليه إلى أجل على أن يعطيه بها عشرة عند الأجل، إلا أن هذا لا يتحقق، فالأظهر إجازة الصلح كما قال، لاسيما ومن مذهبه أن الصلح على الحرام يجوز عنده في وجه الحكم، ولا يفسخ وإن كان لا يجوز عنده لأحد المتصالحين فيما بينه وبين الله إلا ما يجوز في التبايع، وفي هذا تفصيل؛ أما إذا انعقد الصلح على الحرام بين المتصالحين، فلا يجوز ويفسخ باتفاق؛ مثل أن يدعي رجل على رجل دعوى فينكره في بعضها، فيصالحه على جميعها بما يتفقان عليه على أن يسلف أحدهما صاحبه سلفا، فهذا لا يجوز باتفاق؛ لأنه بيع وسلف، وأما إن ادعى رجل على رجل دعوى أنكره في جميعها، فصالحه عنها بما سمياه على أن أسلف أحدهما صاحبه سلفا أو ما أشبه ذلك مما هو في معناه، مثل أن يدعي رجل على رجل إردب قمح فينكره فيه، فيصالحه عنه على شعير إلى أجل؛ ومثل أن يدعي عليه حقا فينكره فيه فيصالحه عنه على سكنى دار أو خدمة عبد، وما أشبه ذلك؛ فإن هذا لا يجيزه مطرف وابن الماجشون، ويفسخانه ولا يمضيانه، ويجيزه أصبغ ويمضيه في وجه الحكم ولا يفسخه؛ لأن المطلوب يدعي صحته ويريد إجازته ويقول للطالب: إن كنت محقا في دعواك، فلا يحل لك أن تأخذ فيما تدعي ما لا يجوز لك أن تأخذه في البيوع، ووجه المخرج له من ذلك إن كان صالح عن القمح بشعير أن يبيع الشعير ويشتري منه القمح الذي له ويدفع بقيته إن كان فيه فضل إلى صاحبه، وإن كان صالح عن حق بسكنى دار واستخدام عبد لم يسكن الدار ولا استخدم العبد، وأكرى ذلك بالنقد، فاستوفى منه حقه ودفع الفضل إن كان فيه فضل إلى صاحبه؛ ولو رفع ذلك إلى الإمام فكان هو الذي يفعل ذلك، لكان أخلص له- والله أعلم؛ وأما إذا وقع الصلح على وجه ظاهره الفساد ولا يتحقق في جهة واحد من المتصالحين، فهذا لا يفسخ باتفاق، وتورع كل واحد منهما في خاصة نفسه، وذلك نحو مسألتنا هذه في هذه الرواية، وبالله التوفيق.

.مسألة يدفع إلى الصراف الدينار يزنه فيقول الصراف قد رددته إليك:

وسئل ابن القاسم عن الرجل يدفع إلى الصراف الدينار يزنه فيقول الصراف قد رددته إليك، ويقول الرجل لم ترده إلي وهما في مجلسهما ومكانهما، قال: القول قول الصراف ويحلف.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال أن القول قول الصراف مع يمينه أنه قد رده إليه إذا كان إنما دفعه إليه ليزنه له ويرده إليه؛ لأنه مؤتمن على رده ولو دفعه إليه ليزنه فيعطيه صرفه، فقال قد رددته إليك إذ لم أجده وازنا وأنكر دافعه، لوجب أن يكون القول قول صاحب الدينار إنه ما صرفه إليه، وبالله التوفيق.

.مسألة شهدا على رجل أنه قال لفلان علي مائة دينار:

ومن كتاب البيوع:
قال: وسئل ابن القاسم عن رجلين شهدا على رجل أنه قال: لفلان علي مائة دينار، أو لفلان لا يدريان أيهما هو، قال ليس عليه أن يغرم أكثر من المائة، ثم يحلف هذان المسميان، ثم يقتسمان المائة بينهما؛ قال أصبغ: يحلف كل واحد منهما أنه هو، وأن له عليه مائة ثابتة؛ فمن نكل منهما فهي للآخر إن حلف؛ وإن نكلا جميعا اقتسماها بينهما بغير يمين بمنزلة حلفهما جميعا، فإن رجع الشهيدان عن شهادتهما بعد الحكم وزوروا أنفسهما، غرما ذلك للمشهود عليه إذا كان يوم شهدا منكرا لشهادتهما.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ هذا مفسر لقول ابن القاسم، وفي قوله فإن رجع الشهيدان في شهادتهما بعد الحكم وزوروا أنفسهما، غرما ذلك للمشهود عليه إذا كان يوم شهدا منكرا لشهادتهما، دليل على أنه لا فرق فيما يلزم المقر بهذه الشهادة بين أن يكون مقرا بها، أو منكرا لها، وإنما يفترق ذلك فيما يلزم الشهيدين من الغرم برجوعهما عن الشهادة، خلاف ما ذهب إليه ابن دحون فيما رأيت له أنه قال: معنى هذه المسألة أن المقر هو الشاك، إنه أنكر إقراره فيلزمه بالبينة، غرم المائة يقتسمانها بينهما؛ ولو كان مقرا بما قال، للزمه غرم مائتين. وقوله لا يدريان أيهما هو، معناه أنهما لا يدريان ذلك من أجل أن المشهود عليه هو الذي قال لفلان علي مائة دينار أو لفلان من أجل أنه لم يدر لمن هي منهما، فحصل الشك من المشهود عليه لا من الشاهدين، ولو كان الشك من الشاهدين بأن يقولا أشهدنا فلان أن عليه مائة دينار لأحد هذين الرجلين وسماه لنا، إلا أنا لا ندري من هو منهما نسيناه، لما جازت شهادتهما على المشهور في المذهب، وحلف لكل واحد منهما- إن كان منكرا أو لمن أنكر منهما- إن كان مقرأ لأحدهما؛ وقد قيل أن شهادتهما جائزة يلزمه بها مائة واحدة تكون لمن حلف منهما إن نكل أحدهما، أو يقتسمانها بينهما إن حلفا أو نكلا، وهو الذي يأتي على ما وقع في أصل الأسدية من كتاب الأيمان بالطلاق من المدونة، ولابن وهب في رسم الأقضية والوصايا من سماع أصبغ من كتاب الصدقات والهبات، وقد قيل في هذا النحو من الشهادات أنها تجوز في الوصية بعد الموت، ولا تجوز على الحي؛ فيتحصل فيها ثلاثة أقوال في الجملة: إجازتها في الوجهين، وإبطالها في الوجهين، والفرق بين الموضعين؛ وكذلك يتحصل ثلاثة أقوال في الذي يقر بالمائة لأحد هذين الرجلين من دين أو وديعة لا يدري لمن هي منهما، أحدها: أنها لا تلزمه إلا مائة واحدة تكون لمن حلف منهما. والثاني: أنه يلزمه أن يغرم مائة لكل واحد منهما. والثالث: الفرق بين الوديعة والدين، وقد مضى هذا في رسم يوصي لمكاتبه من سماع عيسى من هذا الكتاب، ومضى الكلام على المسألة مستوفى في رسم يدير ماله من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس، لتكرر المسألة هناك، والله الموفق.

.مسألة ادعى قبل رجل جارية أنه رهنها عنده:

ومن كتاب البيوع والعيوب:
قال أصبغ: سمعت ابن القاسم وسئل عمن ادعى قبل رجل جارية أنه رهنها عنده، ويقول الآخر: إنما اشتريتها منك، فشهد للمدعي شاهدان أنه رهنها عنده، وشهد للآخر شاهدان أيضا على الاشتراء. ولا يدري الرهن أولا أو البيع؟ قال: الاشتراء أولى إذا قامت له البينة أنه اشترى، فهو أثبت؛ لأنه قد ثبت أنها له؛ فالاشتراء أثبت، إلا أن يقيم المدعي البينة أنه رهنه إياها بعد الاشتراء، فيعرف أنها قد رجعت إليه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن بينة الشراء قد أحقت انتقاد الملك بالبيع، فوجب إلا يبطل ذلك بإشهاد على الرهن، لاحتمال أن يكون الرهن قبل البيع، وبالله التوفيق.

.مسألة ادعيا دارا فأقام أحدهما شاهدين والآخر شاهدا:

ومن كتاب محض القضاء:
وسئل ابن القاسم عن رجلين ادعيا دارا فأقام أحدهما شاهدين والآخر شاهدا والشاهد أبرز في العدالة، والدار ليست في يد واحد منهما؛ قال: الدار لصاحب الشاهدين، قال أصبغ: صاحب الأبرز مع يمينه أحق.
قال محمد بن رشد: قد اختلف قول ابن القاسم في هذا، فروى أبو زيد عنه في كتاب الشهادات مثل قول أصبغ، ومثله ذكر ابن المواز في كتابه أنه يقضي بالشاهد الواحد- وإن كان الذي شهد بخلافه أربعة دونه في العدالة، وقول ابن القاسم في هذه الرواية أظهر؛ إذ من أهل العلم من لا يرى الحكم باليمين مع الشاهد أصلا، ومنهم من لا يرى الترجيح بين البينتين أصلا؛ فالقول بأنه يقضي بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق إذا كان أعدل من الشاهدين، إغراق في القياس، ومثل قول ابن القاسم في هذه الرواية حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون قالا: ولو كان الشاهد أعدل أهل زمانه، وقد مضى في سماع أبي زيد من كتاب الشهادات ذكر الاختلاف في الترجيح بين الشهود، وفي آخر سماع عيسى منه- القول في الترجيح بين المعدلين، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة العبد يدعي العتق من سيده عند موته:

قال وسألته عن العبد يدعي العتق من سيده عند موته، فيريد أن يحلف الورثة من علم ذلك؛ قال: ما ذلك له، قلت فإن ادعى أن الوارث قد حضر ذلك فأراد استحلافه، فقال ليس ذلك له؛ قال أصبغ: ولا بشاهد أيضا هنا.
قال محمد بن رشد: أما إذا لم يكن له شاهد على ما يدعيه من عتق سيده إياه فبين أنه لا يمين على الورثة: وإن ادعى العبد عليهم أنهم قد حضروا ذلك وعلموا به؛ لأن اليمين إذا لم تجب على السيد، فأحرى ألا تجب على الورثة؛ وأما إذا كان له شاهد على عتق سيده إياه وادعى على الورثة علم ذلك، فقول أصبغ ههنا: أنه لا يمين عليهم مع تحقيق الدعوى بالمعرفة عليهم بعيد، وقد روى ابن القاسم عن مالك في رسم قطع الشجر من سماعه من كتاب العتق أن الورثة يحلفون ما علموا بعتق صاحبهم إذا لم يجد إلا شاهدا واحدا، ظاهره وإن لم يدع المعرفة عليهم؛ ومثله في المدونة، وههنا يصح الخلاف؛ لأنها يمين تهمة، وبالله التوفيق.

.مسألة يدعي حقا قبل الرجل فيقول احلف لي أن ما ادعي عليك ليس حقا:

قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن الرجل يدعي حقا قبل الرجل فيقول احلف لي أن ما ادعي عليك ليس حقا، وأبى فيقول له بل احلف أنت وخذ، فإذا هم المدعي أن يحلف، بدا للمدعى عليه وقال لا أرضى بيمينك ولم أظنك تجتري على اليمين؛ هل ذلك عند سلطان وعند غير سلطان سواء؟ قال ليس ذلك للمدعى عليه أن يرجع ويحلف المدعي ويحق حقه على ما أحب الآخر أو كره؛ لأن المدعى عليه قد رد عليه اليمين، فليس له لرجوع فيها؛ وسواء كان ذلك عند سلطان أو غير سلطان- إذا شهد عليه بذلك، وهو الحق- إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة على- نصها- في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس، ومثل قوله هذا في كتاب الديات من المدونة، ولا خلاف أعلمه من أنه ليس له أن يرجع إلى اليمين بعد أن يردها على المدعي، واختلف هل له أن يرجع إليها بعد أن نكل عنها- ما لم يردها على المدعي، فقيل: ليس ذلك له وهو ظاهر ما في الديات من المدونة، ورواية عيسى عن ابن القاسم في المدنية؛ وقيل ذلك له وهو ظاهر قول ابن نافع في المدنية، والقولان محتملان، وبالله التوفيق.

.مسألة يدعي السلعة بيد الرجل فيخاف على سلعته أن تتلف:

من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ وسئل أصبغ فقيل له: الرجل يدعي السلعة بيد الرجل فيخاف على سلعته أن تتلف فيشتريها من الذي هي في يديه، ثم يريد القيام عليه بعد ذلك ببينة فقال: إن كان لم يعلم أن له بينة ولم يعلم بذلك، فذلك له إن ثبتت البينة ويرجع بماله، وإن كان قد علم أن له بينة وعرف موضعها، فلا أرى له بعد ذلك كلاما ولا حجة؛ وإن زعم إنه إنما اشتراها بدارا ومخافة أن يغيبها أو ينفقها- وإنما ذلك- عندي مثل الرجل يصالح وهو يعلم أن له بينة، إلا أن تكون بينته بعيدة جدا ويكون قد أشهد قبل أن يشتريها- أنه إنما يشتريها لما يخاف من أن يغيبها الذي هي في يديه لموضع غيبة بينته وبعدها، ثم يقوم بعد ذلك عليه، فأرى ذلك ينفعه إذا كان كذلك، وإلا فلا كلام له ولا حجة؛ قال: وإن أتى ببينة بعد الاشتراء، وزعم أنه لم يعلم بها، وقال البائع: قد علمت واشتريت على علم بها أو صالحت، فالقول قوله أنه لم يعلم مع يمينه، إلا أن يثبت عليه أنه قد علم؛ لأنه ثبت له الرجوع بماله وأخذه، فالبائع مدع عليه ما يسقط ذلك بالثبت عليه.
قال محمد بن رشد: قول أصبغ في هذه الرواية أن له أن يقوم بعد الصلح ببينته التي علم بها إذا كانت بعيدة جدا، وقد كان أشهد قبل أن يشتريها أنه إنما يشتريها مخافة أن يغيبها الذي هي في يديه لبعد غيبة بينته، خلاف ظاهر ما في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس من أنه لا ينتفع بالإشهاد قبل الصلح في مغيب بينته، إذ لم يفرق في ذلك بين قرب الغيبة من بعدها، والأولى أن يتأول على أنه إنما تكلم على أن غيبة الشهود غير بعيدة جدا، فيكون قول أصبغ هذا مفسرا لقول ابن القاسم هناك؛ ولا احتمال في أنه لا ينتفع بالإشهاد في السر إذا كانت غيبته غير بعيدة، وقد مضى هناك تحصيل القول في هذه المسألة بتقسيم وجوهها، فلا معنى لإعادته مرة أخرى، وبالله التوفيق.

.مسألة توفي فجاءت امرأته بصداقها على زوجها فأنكر وارثه:

قيل لأصبغ رجل توفي فجاءت امرأته بصداقها على زوجها فأنكر وارثه، غير أنه أشهد نفرا فقال: إن قامت على ما تذكر بينة عدلة، فهو في مالي؛ فشهد على الصداق شاهد عدل، فقال قد قلت إن أقامت بينة، فالواحد ليس ببينة، إنما أردت شاهدين؛ قال ذلك له ويحلف ويبرأ حتى تقيم شاهدين.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه الظاهر من قوله، مع أنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما يقر به على نفسه، فإذا حلف برئ ولم يلزمه في ماله شيء، وحلفت هي مع شاهدها أن ما شهد به حق، وإنها ما قبضت ولا وهبت، وإنه لباق عليه إلى حين يمينها وتستوجب حقها في تركته، وبالله التوفيق.

.مسألة الوصي يجوز صلحه عن اليتيم:

ومن كتاب الوصايا الأول من سماع أصبغ:
قال أصبغ سألت ابن القاسم عن الوصي أيصالح لليتامى؟ قال: نعم إذا رأى لذلك وجها، وكان على وجه النظر؛ قلت له: وكيف يعرف وجه ذلك: أبالسلطان؟ قال بل يصالح فإن طلب نقض ذلك بعد ورفع نظر السلطان فيه- إذا رفع إليه، فإن رأى وجه ضرر نقضه، وهو أبدا جائز حتى يرى وجه ضرر غير وجه النظر.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في بعض الروايات، وظاهرها أن الوصي يجوز صلحه عن اليتيم الذي إلى نظره فيما طلب له من حق أو طلب به في أن يأخذ بعض حقه الذي يطلب له، ويضعه إذا خشي ألا يصح له ما ادعاه، وبأن يعطي من ما له بعض ما يطلب به إذا خشي أن يثبت عليه جميع ما يطلب له. وهو له في النوادر مكشوفا خلاف ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون من أنه يجوز له أن يصالح عنه فيما طلب له من حق، بأن يضع بعضه ويأخذ بعضه؛ ولا يجوز له أن يصالح عليه فيما طلب به ببعض ذلك، والصواب ألا فرق بين الموضعين كما ذهب إليه ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة دابة ادعاها رجلان وليست بيد واحد منهما:

وسئل ابن القاسم عن دابة ادعاها رجلان وليست بيد واحد منهما، فأقام أحدهما البينة أنها نتجت عنده، وأقام الآخر البينة أنها اشتراها من المغانم، قال أراها للذي اشتراها من المغانم، ولا يشبه الذي اشتراها من سوق المسلمين؛ لأن هذه تسرق وتغصب وتؤخذ بغير حق، وليست تحاز عن الذي نتجت عنده إلا ببينة تثبت عليه أنه باعها، أو بأمر يحاز يستيقن أنها خرجت من يد صاحبها، وأن الذي يشتري من المقاسم يستيقن أنها خرجت من يد صاحبها حين حازها المشركون؛ فالمشتري أولى بها لحيازة المشركين إياها، قال: ولو وجدت في يد الذي نتجت عنده وأقام هذا البينة أنه اشتراها من المغانم، أخذها منه أيضا، وكان أولى بها؛ إلا أن يشاء أن يدفع إليه الثمن ويأخذها.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة أيضا وقعت في بعض الروايات وهي مسألة صحيحة، والمعنى فيها بين؛ لأن ملك المشركين لها، يرفع ملك سيدها عنها؛ فيكون من اشتراها من المغانم، كمن اشتراها من سوق المسلمين بعد أن علم أن الذي نتجت عنده باعها أو وهبها أو تصدق بها، وبالله التوفيق.
تم كتاب الدعوى والصلح والحمد لله.

.كتاب الاستلحاق:

.المولى يعتق أبوه في الزمان الأول ثم يهلك ولا يدع وارثا إلا مولى وقرابة:

كتاب الاستلحاق من سماع ابن القاسم من مالك- رواية سحنون من كتاب قطع الشجر- قال سحنون: أخبرني ابن القاسم قال: سئل مالك عن المولى يعتق أبوه في الزمان الأول ثم يهلك ولا يدع وارثا إلا مولى وقرابة يلقاهم إلى أب جاهلي، قال: إن كان مجهولا فلا يرثه قرابته وإن لم يكن مجهولا وكان من أهل قرية افتتحت عنوة فسكنها أهل الإسلام وصارت دارهم، فإن من أعتق من أولئك ويسلم من بقي من قرابتهم، فأرى أن يتوارثوا بالنسب ولا يكون لمواليه من ميراثه شيء، وذلك أنهم سكنوا مع قرابتهم بقريتهم ومكانهم وليسوا مثل المحمولين الذين يؤتى بهم من بلد آخر فيتعارفون في دار الإسلام، فيقولون نحن إخوة وقرابة ما كانت، فإن أولئك لا يتوارثون، وأما هؤلاء الذين ذكرت أنهم لم يخرجوا من مكانهم فإن أهل الإسلام دورهم وصارت دارهم دار أهل الإسلام، فإن هؤلاء يتوارثون بالقرابة، وإن لم تثبت قرابتهم، إلا إلى جاهلي، فإن أولئك يتوارثون. قال ابن القاسم: وقال لي مالك: لو أن أهل حصن أسلموا أو جماعة لهم عدد فتحملوا إلى بلد المسلمين، رأيت أن يتوارثوا بأنسابهم؛ وأما النفر اليسير مثل الثمانية والسبعة، فلا أرى أن يتوارثوا، قال ابن القاسم: والعشرون عندي عدد يتوارثون، قال سحنون: لا أرى العشرين عددا يتوارثون.
قال محمد بن رشد: اختلف قول مالك في ولادة الشرك هل يتوارث بها في الإسلام أم لا- على قولين، أحدهما- وهو قوله الأول أنه لا يتوارث بها في الإسلام وإن ثبت النسب بعدول من المسلمين على ظاهر ما روي من أن عمر بن الخطاب أبى أن يورث أحدا من الأعاجم إلا أحدا ولد في العرب، وهو قول ابن الماجشون وأبيه عبد العزيز بن أبي سلمة، والمغيرة، وابن دينار، وربيعة، وابن هرمز. والثاني الذي رجع إليه أنه لا يتوارث بها إلا أن يثبت النسب بالبينة العدلة، مثل الأسارى من المسلمين يكونون عندهم، أو الحربيين يأتون بأمان فيسلمون، أو يسبون فيعتقون ويسلمون، وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب؛ ذكر ابن أبي شيبة عن الشعبي أن عمر بن الخطاب كتب إلى شريح ألا يورث الحميل إلا ببينة، وإلى هذا ذهب ابن القاسم، ورواه عن مالك؛ فقال: إنما تفسير قول عمر لا يتوارث بولادة الأعاجم في الدعوى خاصة؛ وأما إن ثبت ذلك بعدول من المسلمين كانوا عندهم فهم كولادة المسلمين وهو الصحيح في النظر، إذ لم ينص عمر ما روي عنه أنهم لا يتوارثون بحال وإن ثبت النسب ببينة؛ فتفسير قوله بقوله أولى من أن يحمل على الاختلاف؛ وإن شهد على قياس هذا القول بعضهم لبعض وهم عدول، جازت شهادتهم إلا أن يشهد المشهود لهم للشهود أيضا، فلا يجوز ذلك إلا على اختلاف؛ وهذا الاختلاف- عندي- إنما هو في العدد اليسير يتحملون من بلاد الحرب إلى بلاد المسلمين، فيثبت نسبهم بشهادة المسلمين، وأما العدد الكثير يتحملون من أهل الحصن فيقرون أنهم قرابة، فلا اختلاف أنهم يتوارثون بأنسابهم وإن لم يكونوا عدولا، لوقوع العلم بإقرارهم من جهة الخبر لا من طريق الشهادة، ولا حد في عددهم؛ لأن المعنى في ذلك إنما هو حصول العلم بخبرهم، وذلك لا يكون إلا في العدد الذي لا يمكن أن يتواطئوا على القول بذلك والإخبار به. فقول سحنون في أخذ هذه المسألة أصح من قول ابن القاسم. وقوله في أول مسألة: قال: إن كان محمولا فلا ترثه قرابته، معناه على ما حكيناه من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، معناه إذا لم يعرف أنهم قرابة إلا بدعواهم وبشهادة بعضهم لبعض وأما لو عرف أنهم قرابة بشهادة شاهدين عدلين من سواهم، لكان لهم الميراث، وكانوا أحق به من مولاه، فيحتمل أن يكون قوله هذا على القول بأن الشهود إذا شهد بعضهم لبعض هؤلاء لهؤلاء، وهؤلاء لهؤلاء، لم تجز شهادتهم، ويحتمل أن يكون إنما قال ذلك من أجل أن الميت قد ثبت ولاؤه لمولاه؛ فيتحصل على هذا في إجازة شهادتهم إذا شهد بعضهم لبعض؛ ثلاثة أقوال، أحدها: أنها تجوز. والثاني: أنها لا تجوز، والثالث: الفرق بين أن يكون الميت قد ثبت ولاؤه لمن أعتقه، أو لمن يجب ذلك له بسبب العتق، وبين أن يكون حرا لا ولاء لأحد عليه؛ ويدل على هذا الفرق ما وقع في موطأ ابن وهب عن مالك أن المسبيين لا يتوارثون بشهادة بعضهم لبعض، بخلاف المتحملين؛ لأن الفرق بين المسبيين والمتحملين إنما هو أن المسبيين قد تقرر ولاؤهم لمن أعتقهم، ووجب لهم ميراثهم بولاء، فلا يبطل ذلك إلا بشهادة غيرهم، لا بشهادة بعضهم لبعض، والمتحملون لا ولاء لأحد عليهم، وبهذا المعنى اعتل الشافعي في الفرق بين المسألتين، وهو فرق ظاهر، فقال: إذا جاءوا مسلمين لا ولاء لأحد عليهم، قبلنا دعواهم؛ وإن كانوا قد أدركهم السبي والرق وثبت عليهم الولاء والملك، لم تقبل دعواهم إلا ببينة، وقد وقع في التفسير الثالث قال ابن القاسم: لو أن أهل حصن من الحصون سبوا جميعا بأسرهم ثم كانوا بموضع يتعارفون فيه، وأسلموا عند من ملكهم، لم يتوارثوا بتلك الأنساب؛ ولو أنهم إذ غلبوا على بلدهم، تركهم الإمام إذ أخذهم وضرب عليهم الجزية، توارثوا بأنسابهم؛ قال: والأمور تفترق بلا حجة ولا قياس، وعلينا في كل ما ثبت من ذلك من قول أهل العلم الاتباع، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الفرق بين المسألتين هو ما ذكرته وحكيته عن الشافعي. وقوله في أهل القرية التي افتتحت عنوة فسكنها أهل الإسلام معهم أنهم يتوارثون بأنسابهم، بخلاف المحمولين الذين يؤتى بهم من بلد آخر فيتعارفوا في دار الإسلام، أن أولئك لا يتوارثون بأنسابهم، معناه إذا كان عدد أهل القرية كثيرا، وعدد المحمولين يسيرا. ولو كان هؤلاء يسيرا وهؤلاء يسيرا، لما توارث هؤلاء ولا هؤلاء بإقرار بعضهم لبعض، إلا أن يكونوا عدولا، على الاختلاف في إجازة شهادة الشهود إذا شهد هؤلاء لهؤلاء وهؤلاء لهؤلاء، أو كان هؤلاء كثيرا لتوارث هؤلاء وهؤلاء بشهادة بعضهم لبعض، وإن لم يكونوا عدولا، لوقوع العلم بقولهم من جهة الخبر، على ما ذكرناه، فهذا وجه القول في هذه المسألة، وبالله التوفيق.